2014/02/23

أين قصري ؟ | " قصة " |



بكى بكاء شديد واحمرت العينان وظهرت بعض الخطوط الأنيقة على جبينه الأسمر ، ياله من جبين حمل الكثير من المعاناة المخلوطة بالأمل . جاءت وحضنها وهو مازال يبكي يتألم كأنه يتذكر شيء أو شيئين أو أشياء . مازالت لا تجيد الكلام وزنها كريشة حمام أو أقل .

قبلها على رأسها وقال أريد طفولتي واللعب من دون تفكير أو مسؤولية أو عناء أو أمراض غريبة وحسد ورياء وغرور ، وقبلها أخرى على يدها الرقيقة وقال ذكرياتي فاتها القطار وأنا مازلت مسافر وسأسافر وسأسافر . مازلت أحن لطفولتي التي جمعتني بالأسود  والأبيض ، ولم أفكر يوماً بأن يفرقنا لون  .

أين قصري ؟ وخدمي والحشم ؟ وسيارة العز وسجادة الممر الحمراء ؟ هكذا كانت أمي تحكي لي عن مستقبل الأجيال الذي بدأ يضيع في غياهب زمانكم الكريم ، اليوم أنا نحيل ذو شعر أبيض وبين ذراعي طفلة إبنتي البكر التي كلما رأيتها تألمت من ذلك الوداع الحزين بعد رحيل أمها التي تارةً ينادونها شهيدة وتارةً ينادونها إرهابية .

اليوم أنا أفتش في صندوق بني اللون ثقيل جداً يكسوه الغبار وخيوط العناكب ، وكأني أبحث عن وطن داخل ذلك الصندوق وكيف للوطن أن يختبأ داخل صندوق . أما الآن أسمع أصوات الضجيج وأصوات الأيادي والجميع في الأزقة والممرات ينادي حرية حرية ولا أعرف أن كان من ينادي بها يعرف لمعناها شيء ، حتى لا أطيل عليكم قصتي .

ثواني معدودة استطعت عدها عن طريق صوت الماء ، آقصد قطرات الماء ( طق - طق ) التي كانت تتألق من أعلى سقف منزلنا الغريب الذي مكثنا فيها تحت أمل إنتظار ووعيد بمنزل أكبر منه بقليل ولكنه أفضل بعض الشيء  ، وعدنا به أحدهم ولا يروق لي ذكر إسمه . ( ما علينا )

١،٢،٣، ١٥ في هذه الثانية بالتحديد سمعت أصوات كهزات الجبل ولو أنني لم أسمع هزة جبل من قبل إلا أنني حسبتها ذلك ، ركضت مسرعاً ناسياً الألم والتعب والمرض واحتضنت الطفلة وأدخلتها إلى داخل بيتنا العجيب كي أحمي رئتها من هواء السم الذي يقذفه الغرباء على أولائك الذين ينادون حرية حرية .

ليس لدينا سمارت تي في ولا إل سي دي ولكن تلفازنا يفي بالغرض نسمع أخبار عن هنا وهناك من الشرق حتى الغرب  عن أموات و حزام وسيارات مفخخة وجهاد وقطع رؤوس ونكاح و نبش قبور وإغاثة ومصطلحات جديدة لم نكن نسمعها على أيام الراحل الحاج عبدالله صاحب المقهى الذي يبعد عن منزلنا ( كوخنا ) أربعة بيوت أي مايعادل ثمانية أمتار . رحمة الله علية إنتقل لجوار ربه في رحلتنا الأخيرة للغوص .

رحلة لن أنساها مازلت أتذكرها كل مساء في ولكن لا أستطيع الوصول لمكان تلك الذكرى المشؤومة بعدما تم بناء ذلك الجدار اللعين بين قريتنا وبين بحرنا الذي ماعدا بحراً . راحت ابتسامته الإيجابية التي تنير دروب أهالي القرية وتتفاعل مع نبضاتنا التي بدأت تخفق أسرع من الضوء بعدما غابت أمي الحنون التي لم أستطع أن أقول لها أنا فخور بك يا أمي ونصيحتي قولوها قبل أن تفدوا من تقولونها له .

قد لا يأتيكم غداً إلا وزمانكم مظلم كما حل بي وحل بهذه الطفلة ، كونوا مع أحبتكم ولا تضيعوا الفرص الذهبية . ولاتضيعوا الملامح التي بدأ الغريب يقضي عليها ويقلل من حجمها ومن تأثيرها فلم تعد تعلم من هو إبن الوطن ومن هو إبن ذلك الوطن . " عولمة "  هذا ماقالته لي ( صفاء ) جارتنا التي تدرس في جامعة تدعي الرقي والإعتمادية ولكنها جامعة تحمل تحت فواصلها ونقطها أسلوب غريب دمر العلماء و المجتهدين وكرم السفهاء والسذج الغرباء .

صفاء : الطعم شديد المرارة ياعم وأنا خائفة على مستقبلي الذي قد تضيع صفحاته بعدما شوهوا صورتي وشخصيتي وقالوا وقالوا عني ، ياعم لا أستطع الأكل وكأن أسناني تكسرت من حرقة قلبي على من يتنعم بمالي ومكاني وأنا عاطلة الآن عن العمل والدراسة وربما الحياة .  يطلبون مني مبلغ وقدره بحججٍ واهية وبلهاء لفقها من اعتبرتهم أصدقاء . ياعم  أين قصري ؟ الذي وعدتني أمي به .. القصر الكبير وأنا أميرته الجميلة .

هذه صفاء الجارة فما بالكم بالعضيد الذي تألق إبنه وتألق في خدمة المجد وبنائه لكن حل الزمن أن يقف محتاراً مندهشاً لا يفرق بين لون وآخر بعدما فقد بصره ، أسأله :  ماذا دهاك يا عضيدي ؟ يجيبني : دهاني الدهر والبحر والأوطان ! دهاني الفكر والعقل والأحلام ، عرفت الخيبة التي حلت بأخي الذي بات مكتوف الأيادي بعد ماحل بإبنه الوحيد .

هناك حيث الليل والضرب والسخرية والتعذيب فلا مأكل ولا مشرب ولا راحة ولا عبادة ولا هواء ،  يا عضيدي متى ستنسى ذلك المكان الذي غيرك وأضعفني وها هو يأكل وينهش في أبناء قريتي ، متى ؟

عشرون سنة مضت ومازال بداخل قلب أخي زاوية يتوسطها الغموض لا أفهم منها إلا أن ضيغ مستقبله حقود والآن يضيع مستقبل إبنه حقود لا يخاف الله ولا العقاب، يسألني أخي : أين قصري ؟

كلهم يسألوني وكأني من يأمر ببناء القصور و توزيع الثروات التي ضاعت واحتكرها شخص أو شخصين ضيعوهم وضيعوني . وقبل أن تسألوني ؟ أنتم أين قصوركم ؟









ليست هناك تعليقات: